نص مقال الكاتب فهمي هويدي الذي تم منع نشره في جريدة الأهرام ونشرته صحيفة المصري اليوم، يمكننا ان نفهم سبب المنع بعد قرائته:
أجب عن السؤال التالي: بماذا تفسر أن الذين تشبثوا بالنص علي المواطنة في أولي مواد الدستور المصري، كانوا هم أنفسهم الذين مرروا نصا آخر يفتح الباب علي مصراعيه لإهدار بعض من أهم حقوق المواطن المصري؟
(١)
ذلك أن المراقب عن بعد، لا بد أنه استشعر درجة عالية من الطرب والنشوة وهو يتابع المناقشات التي جرت في لجان مجلس الشعب وعبر وسائل الإعلام المختلفة، والتي دارت حول حظوظ «المواطنة» في تعديلات الدستور. وهي التي تراوحت بين من تمسكوا بالنص علي المصطلح في صلب المادة الأولي من الدستور، وبين من دعوا إلي إيراد المعني وتقرير المبدأ في تلك المادة.
افتح هنا قوسا لأذكر بأنني عبرت في أكثر من مناسبة عن رأيي في المسألة، قلت فيه إننا بفتح ملفات المواطنة والدولة المدنية نعيد اختراع العجلة. بمعني أننا نستدعي بديهيات استقرت في الخبرة الإنسانية، ولم تعد موضوعا للجدل والمماحكة.
فلم يعد هناك عاقل يعارض فكرة المواطنة أو ينكر مدنية الدولة، التي لم تعرف غيرها مجتمعاتنا العربية والإسلامية بامتداد تاريخها. وقلت إنها شأن غيرها من العناوين البديهية، فإن المناقشة الجادة حولها ينبغي أن تتجاوز السؤال: «ماذا»، الذي عرفنا إجابته، إلي السؤال: «كيف»، الذي يفترض أن توضح لنا إجابته سبل تنزيل تلك العناوين علي الواقع، بحيث تترجم إلي حقوق وواجبات وضمانات تحميها.
وإذ يلحظ المراقب أن التمسك بفكرة المواطنة، اقترن بالإلحاح علي مدنية الدولة، فلا بد أن يتفاءل خيراً ببقية التعديلات، متوقعا أنها ستكمل المشوار من خلال رفع سقف الحريات العامة لجميع «المواطنين»، وتوسيع قاعدة الدولة المدنية بما تقيمه من أبنية وهياكل وتقاليد. غير أن ذلك التفاؤل سرعان ما يتبدد، وتحل محله حيرة بالغة، خصوصا حين تستوقفه المادة ١٧٩ التي أعتبرها أخطر ما في التعديل الدستوري، علي الأقل من حيث إنها أقرب المواد المعدلة الي المواطنين، وأكثرها مساسا بحقوقهم المدنية.
(٢)
في التعديل الذي تم إقراره، ويفترض أن يصوت مجلس الشعب عليه ـ أمس ـ (الثلاثاء) بصورة نهائية، تنص المادة ١٧٩ علي ما يلي:
«تعمل الدولة علي حماية الأمن والنظام في مواجهة أخطار الإرهاب. وينظم القانون أحكاما خاصة بإجراءات الاستدلال والتحقيق التي تقتضيها ضرورة مواجهة تلك الأخطار، وذلك تحت رقابة من القضاء. وبحيث لا يحول دون تطبيق تلك الأحكام الإجراء المنصوص عليه في كل من الفقرة الأولي من المادة ٤١ والمادة ٤٤ والفقرة الثانية من المادة ٤٥ من الدستور.
ولرئيس الجمهورية أن يحيل أي جريمة من جرائم الإرهاب إلي أي جهة قضاء منصوص عليها في الدستور أو القانون».
هذا النص يثير مزيجا من الحيرة والقلق. فنحن إذا تغاضينا عن الاضطراب والخلل في شقه الأول، فسنجد أنه استحدث بعد ذلك موقفا مدهشا من الناحيتين القانونية والسياسية. إذ اعتبر أن قانون الإرهاب مقدم علي مواد الدستور الثلاث. وذلك أمر مستغرب، لأن المفترض أن الدستور هو أبو القوانين، وبالتالي فإنه في حدوث التعارض، فإن نصوص الدستور هي التي تغلب، وليس نصوص القانون. ثم إن المواد الثلاث التي أجاز التعديل تعطيلها لصالح تنفيذ القانون تتعلق بعناصر أساسية في حريات الناس وضماناتها.. كيف؟
تنص الفقرة الأولي من المادة ٤١ المرشحة للتعطيل علي أن: «الحرية الشخصية حق طبيعي، وهي مصونة لا تمس، وفيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض علي أحد أو تفتيشه أو حبسه، أو تقييد حريته بأي قيد، أو منعه من التنقل، إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع، ويصدر هذا الأمر من القاضي المختص أو النيابة العامة، ذلك وفقا لأحكام القانون».
أما المادة ٤٤ فتنص علي ما يلي: «للمساكن حرمة، فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها إلا بأمر قضائي مسبب، وفقا لاحكام القانون». والمادة ٤٥ تنص علي أنه: «لحياة المواطنين الخاصة حرمة يحميها القانون... وللمراسلات البريدية والبرقية والمحادثات التليفونية، وغيرها من وسائل الاتصال، حرمة وسريتها مكفولة، ولا يجوز مصادرتها أو الاطلاع عليها أو رقابتها إلا بأمر قضائي مسبب، ولمدة محددة، وفقا لأحكام القانون».
إجازة تعطيل هذه المواد تعني أن الدستور يطلق يد أجهزة الأمن في القبض علي خلق الله وحبسهم، ودخول بيوتهم وتفتيشها، ومراقبة مراسلاتهم واتصالاتهم وهتك أسرارهم الشخصية، كل ذلك دون إذن من القضاء، وبناء علي تقدير جهات الأمن وتحرياتها الخاصة.
من ثم فبدلا من أن يلتزم المشرع، فيما يصدره من قوانين، بالنصوص الدستورية القائمة، إذا به يعطل حكم النصوص بإعفائه تشريعا معيناً من الالتزام بها. وهو أمر مشكوك في سلامته من الناحية القانونية والدستورية.
الذي لا يقل خطورة عما سبق، تلك الإشارة في نهاية المادة التي تخول لرئيس الجمهورية حق تحويل أي جريمة من جرائم الإرهاب إلي أي جهة قضائية يرتئيها. وجه الخطورة التي أدعيها يكمن في أن ذلك الإجراء يخل بقاعدة المساواة بين المواطنين، إذ يحال بعضهم إلي قضاء مدني، والبعض الآخر الي قضاء عسكري، دون استناد إلي أساس موضوعي لذلك.
ثم إنه يتعارض مع نص دستوري آخر (المادة ٦٨) يقرر حق المتهم في المحاكمة أمام قاضيه الطبيعي، سواء كان مدنيا أو عسكريا. في الوقت ذاته فإنه يفتح الباب للتدخل في شؤون القضاء، المفترض استقلاله، حين تحال قضية دون غيرها إلي قضاء معين.
ناهيك عن أنه يجعل رئيس الدولة طرفا في الموضوع بغير مبرر، لأنه لن يحيل قضية إلي هذه المحكمة أو تلك إلا إذا أحيط علما بمضمونها، علي الأقل بالقدر الذي يمكنه من إصدار الإحالة وتوجيه المتهم إلي القضاء الذي يريده.
(٣)
تتجدد الحيرة ويتضاعف القلق إذا أدركنا أن التراجع الذي قررته المادة في ضمانات حريات المواطنين وحرمة مساكنهم وأسرارهم ليس الوحيد في بابه، ولكن سبقه تراجع آخر في سقف الحريات العامة، قرره قانون سبق إصداره في عام ١٩٩٢ لمكافحة الإرهاب، عدل من بعض مواد قانون العقوبات.
وكان التوسع في تعريف الإرهاب من أهم سمات ذلك التعديل، الذي صاغ المادة ٨٦ من قانون العقوبات علي النحو التالي: يقصد بالإرهاب.. كل استخدام للقوة والعنف أو التهديد أو الترويع يستهدف الإخلال بالنظام العام أو تعريض سلامة المجتمع وأمنه للخطر (لاحظ التعبير الفضفاض)_ إذا كان من شأن ذلك إيذاء الأشخاص أو ترويعهم أو تعريض حياتهم أو حرياتهم أو أمنهم للخطر،
أو إلحاق الضرر بالبيئة (!!) أو بالاتصالات أو المواصلات أو بالأموال أو بالمباني أو بالأملاك العامة… أو منع عرقلة ممارسة السلطات العامة، أو دور العبادة أو معاهد العلم لأعمالها، أو تعطيل تطبيق الدستور أو القوانين أو اللوائح
هذا التعريف، شديد الاتساع، يدخل تحت مسمي الإرهاب كل الحركات الاحتجاجية التي نصت عليها المواثيق الدولية، واعتبرتها حقوقا «للمواطنين». إذ ما أسهل أن تعتبر أي معارضة إخلالا بالنظام العام، وما أسهل أن تعد أي مظاهرة للطلاب أو اعتصام للعمال من قبيل تعطيل المواصلات أو عرقلة أعمال معاهد العلم، أو الإضرار بالبيئة!.
إلي جانب التوسع في تعريف الإرهاب، ففي نصوص القانون توسع آخر في التجريم، بحيث لم يقتصر علي معاقبة الفاعلين، وإنما وسع بالإرهاب: «كل من روج بالقول أو الكتابة أو بأية طريقة أخري للأغراض المذكورة… وكل من حاز بالذات أو بالوساطة أو حرز محررات أو مطبوعات أو تسجيلات أيا كان نوعها، تتضمن ترويجا أو تحبيذاً لشيء مما تقدم».
أما التشديد في العقوبات فحدث فيه ولا حرج، ذلك أن النصوص التي تعاقب من تنسب إليه الأفعال بالسجن مددا تتراوح بين خمس سنوات والأشغال الشاقة المؤبدة، وقد تصل إلي الإعدام، ذلك فضلا عن تدابير احترازية أخري، من قبيل تحديد الإقامة في مكان معين، أو حظر التردد علي أماكن بذاتها.
وهي الإجراءات الاستثنائية التي وردت في قانون الطوارئ ضمن سلطات الحاكم العسكري، ولكنها أضيفت إلي قانون العقوبات، بحيث أصبحت إجراءات عادية تطبق بحق أي مواطن عادي، يشاء حظه العاثر أن يتورط في شيء من المحظورات سابقة الذكر.
ما يصدمنا حقا أن يكون نص المادة ١٧٩ في تعديلات الدستور، الذي يمهد لإصدار قانون جديد للإرهاب، يضاف إلي التعديلات التي أدخلت علي قانون العقوبات لمكافحة الإرهاب، ذلك كله يمثل «الفاتورة» التي يتعين دفعها لإلغاء قانون الطوارئ. وهو ما يدعو واحداً مثلي إلي مراجعة موقفه، وتغيير كلامه، بحيث يتوسل لمن بيده الأمر أن يبقي علي قانون الطوارئ كما هو، باعتباره أهون الشرور المعروضة علينا.
(٤)
السؤال الذي طرحته في البداية يحتمل أكثر من إجابة، ذلك أن مفارقة التمسك بشعار المواطنة، ثم غض الطرف عن مسلسل إهدار حقوق المواطن يمكن أن تفسر بحسبانها من قرائن عدم الجدية.
بمعني أن الذين تمسكوا بالشعار وألحوا علي ضرورة النص عليه كان لهم هدف آخر غير، الذي تصوره بعض حسني النية، ممن رددوا الهتاف وساروا في المظاهرة. وإذا سألتني ما هو ذلك الهدف الآخر، فردي أنه أي شيء غير الحفاظ علي حقوق المواطن.
ثمة إجابة أخري علي السؤال تؤيد ما ذهب اليه الدكتور زكي نجيب محمود ذات مرة في بعض ما كتب، مشيراً إلي أن من تقاليد البيروقراطية المصرية أن ملء الاستمارة أو إحالة الأمر إلي لجنة أهم من إنجاز العمل وتحقيق المصلحة.
وإذا طبقنا الفكرة علي المشهد الذي نحن بصدده فقد نجد أن الذين تمسكوا بالنص علي المواطنة في المادة الأولي اعتبروا أنهم ملأوا الاستمارة وأدوا ما عليهم. من ثم فإنهم لم ينشغلوا أو يكترثوا بما إذا كانت حقوق المواطن وضمانات حرياته قد توفرت أم لا.
أخيرا.. أكرر أن الذين شاركوا في مناقشات تعديل مواد الدستور، تكلموا كحزب وطني في مواجهة الإخوان، أو كإسلاميين ضد علمانيين، أو مسلمين ومسيحيين، فانطلقوا مما يميزهم ويفرق بينهم، ولم يقفوا علي الأرضية المشتركة التي تجمعهم، وهي أنهم مصريون في نهاية المطاف.
وهو ما أدي إلي هيمنة الحسابات الفئوية والحزبية علي المشهد، بحيث شغل كل طرف بما حصّله لجماعته، وكانت النتيجة أن خرج المواطن المصري العادي - غير المشغول بهذه التصنيفات - خاسرا، إذ لم يجد أحدا يرعي حقوقه ويحرسها
(١)
ذلك أن المراقب عن بعد، لا بد أنه استشعر درجة عالية من الطرب والنشوة وهو يتابع المناقشات التي جرت في لجان مجلس الشعب وعبر وسائل الإعلام المختلفة، والتي دارت حول حظوظ «المواطنة» في تعديلات الدستور. وهي التي تراوحت بين من تمسكوا بالنص علي المصطلح في صلب المادة الأولي من الدستور، وبين من دعوا إلي إيراد المعني وتقرير المبدأ في تلك المادة.
افتح هنا قوسا لأذكر بأنني عبرت في أكثر من مناسبة عن رأيي في المسألة، قلت فيه إننا بفتح ملفات المواطنة والدولة المدنية نعيد اختراع العجلة. بمعني أننا نستدعي بديهيات استقرت في الخبرة الإنسانية، ولم تعد موضوعا للجدل والمماحكة.
فلم يعد هناك عاقل يعارض فكرة المواطنة أو ينكر مدنية الدولة، التي لم تعرف غيرها مجتمعاتنا العربية والإسلامية بامتداد تاريخها. وقلت إنها شأن غيرها من العناوين البديهية، فإن المناقشة الجادة حولها ينبغي أن تتجاوز السؤال: «ماذا»، الذي عرفنا إجابته، إلي السؤال: «كيف»، الذي يفترض أن توضح لنا إجابته سبل تنزيل تلك العناوين علي الواقع، بحيث تترجم إلي حقوق وواجبات وضمانات تحميها.
وإذ يلحظ المراقب أن التمسك بفكرة المواطنة، اقترن بالإلحاح علي مدنية الدولة، فلا بد أن يتفاءل خيراً ببقية التعديلات، متوقعا أنها ستكمل المشوار من خلال رفع سقف الحريات العامة لجميع «المواطنين»، وتوسيع قاعدة الدولة المدنية بما تقيمه من أبنية وهياكل وتقاليد. غير أن ذلك التفاؤل سرعان ما يتبدد، وتحل محله حيرة بالغة، خصوصا حين تستوقفه المادة ١٧٩ التي أعتبرها أخطر ما في التعديل الدستوري، علي الأقل من حيث إنها أقرب المواد المعدلة الي المواطنين، وأكثرها مساسا بحقوقهم المدنية.
(٢)
في التعديل الذي تم إقراره، ويفترض أن يصوت مجلس الشعب عليه ـ أمس ـ (الثلاثاء) بصورة نهائية، تنص المادة ١٧٩ علي ما يلي:
«تعمل الدولة علي حماية الأمن والنظام في مواجهة أخطار الإرهاب. وينظم القانون أحكاما خاصة بإجراءات الاستدلال والتحقيق التي تقتضيها ضرورة مواجهة تلك الأخطار، وذلك تحت رقابة من القضاء. وبحيث لا يحول دون تطبيق تلك الأحكام الإجراء المنصوص عليه في كل من الفقرة الأولي من المادة ٤١ والمادة ٤٤ والفقرة الثانية من المادة ٤٥ من الدستور.
ولرئيس الجمهورية أن يحيل أي جريمة من جرائم الإرهاب إلي أي جهة قضاء منصوص عليها في الدستور أو القانون».
هذا النص يثير مزيجا من الحيرة والقلق. فنحن إذا تغاضينا عن الاضطراب والخلل في شقه الأول، فسنجد أنه استحدث بعد ذلك موقفا مدهشا من الناحيتين القانونية والسياسية. إذ اعتبر أن قانون الإرهاب مقدم علي مواد الدستور الثلاث. وذلك أمر مستغرب، لأن المفترض أن الدستور هو أبو القوانين، وبالتالي فإنه في حدوث التعارض، فإن نصوص الدستور هي التي تغلب، وليس نصوص القانون. ثم إن المواد الثلاث التي أجاز التعديل تعطيلها لصالح تنفيذ القانون تتعلق بعناصر أساسية في حريات الناس وضماناتها.. كيف؟
تنص الفقرة الأولي من المادة ٤١ المرشحة للتعطيل علي أن: «الحرية الشخصية حق طبيعي، وهي مصونة لا تمس، وفيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض علي أحد أو تفتيشه أو حبسه، أو تقييد حريته بأي قيد، أو منعه من التنقل، إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع، ويصدر هذا الأمر من القاضي المختص أو النيابة العامة، ذلك وفقا لأحكام القانون».
أما المادة ٤٤ فتنص علي ما يلي: «للمساكن حرمة، فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها إلا بأمر قضائي مسبب، وفقا لاحكام القانون». والمادة ٤٥ تنص علي أنه: «لحياة المواطنين الخاصة حرمة يحميها القانون... وللمراسلات البريدية والبرقية والمحادثات التليفونية، وغيرها من وسائل الاتصال، حرمة وسريتها مكفولة، ولا يجوز مصادرتها أو الاطلاع عليها أو رقابتها إلا بأمر قضائي مسبب، ولمدة محددة، وفقا لأحكام القانون».
إجازة تعطيل هذه المواد تعني أن الدستور يطلق يد أجهزة الأمن في القبض علي خلق الله وحبسهم، ودخول بيوتهم وتفتيشها، ومراقبة مراسلاتهم واتصالاتهم وهتك أسرارهم الشخصية، كل ذلك دون إذن من القضاء، وبناء علي تقدير جهات الأمن وتحرياتها الخاصة.
من ثم فبدلا من أن يلتزم المشرع، فيما يصدره من قوانين، بالنصوص الدستورية القائمة، إذا به يعطل حكم النصوص بإعفائه تشريعا معيناً من الالتزام بها. وهو أمر مشكوك في سلامته من الناحية القانونية والدستورية.
الذي لا يقل خطورة عما سبق، تلك الإشارة في نهاية المادة التي تخول لرئيس الجمهورية حق تحويل أي جريمة من جرائم الإرهاب إلي أي جهة قضائية يرتئيها. وجه الخطورة التي أدعيها يكمن في أن ذلك الإجراء يخل بقاعدة المساواة بين المواطنين، إذ يحال بعضهم إلي قضاء مدني، والبعض الآخر الي قضاء عسكري، دون استناد إلي أساس موضوعي لذلك.
ثم إنه يتعارض مع نص دستوري آخر (المادة ٦٨) يقرر حق المتهم في المحاكمة أمام قاضيه الطبيعي، سواء كان مدنيا أو عسكريا. في الوقت ذاته فإنه يفتح الباب للتدخل في شؤون القضاء، المفترض استقلاله، حين تحال قضية دون غيرها إلي قضاء معين.
ناهيك عن أنه يجعل رئيس الدولة طرفا في الموضوع بغير مبرر، لأنه لن يحيل قضية إلي هذه المحكمة أو تلك إلا إذا أحيط علما بمضمونها، علي الأقل بالقدر الذي يمكنه من إصدار الإحالة وتوجيه المتهم إلي القضاء الذي يريده.
(٣)
تتجدد الحيرة ويتضاعف القلق إذا أدركنا أن التراجع الذي قررته المادة في ضمانات حريات المواطنين وحرمة مساكنهم وأسرارهم ليس الوحيد في بابه، ولكن سبقه تراجع آخر في سقف الحريات العامة، قرره قانون سبق إصداره في عام ١٩٩٢ لمكافحة الإرهاب، عدل من بعض مواد قانون العقوبات.
وكان التوسع في تعريف الإرهاب من أهم سمات ذلك التعديل، الذي صاغ المادة ٨٦ من قانون العقوبات علي النحو التالي: يقصد بالإرهاب.. كل استخدام للقوة والعنف أو التهديد أو الترويع يستهدف الإخلال بالنظام العام أو تعريض سلامة المجتمع وأمنه للخطر (لاحظ التعبير الفضفاض)_ إذا كان من شأن ذلك إيذاء الأشخاص أو ترويعهم أو تعريض حياتهم أو حرياتهم أو أمنهم للخطر،
أو إلحاق الضرر بالبيئة (!!) أو بالاتصالات أو المواصلات أو بالأموال أو بالمباني أو بالأملاك العامة… أو منع عرقلة ممارسة السلطات العامة، أو دور العبادة أو معاهد العلم لأعمالها، أو تعطيل تطبيق الدستور أو القوانين أو اللوائح
هذا التعريف، شديد الاتساع، يدخل تحت مسمي الإرهاب كل الحركات الاحتجاجية التي نصت عليها المواثيق الدولية، واعتبرتها حقوقا «للمواطنين». إذ ما أسهل أن تعتبر أي معارضة إخلالا بالنظام العام، وما أسهل أن تعد أي مظاهرة للطلاب أو اعتصام للعمال من قبيل تعطيل المواصلات أو عرقلة أعمال معاهد العلم، أو الإضرار بالبيئة!.
إلي جانب التوسع في تعريف الإرهاب، ففي نصوص القانون توسع آخر في التجريم، بحيث لم يقتصر علي معاقبة الفاعلين، وإنما وسع بالإرهاب: «كل من روج بالقول أو الكتابة أو بأية طريقة أخري للأغراض المذكورة… وكل من حاز بالذات أو بالوساطة أو حرز محررات أو مطبوعات أو تسجيلات أيا كان نوعها، تتضمن ترويجا أو تحبيذاً لشيء مما تقدم».
أما التشديد في العقوبات فحدث فيه ولا حرج، ذلك أن النصوص التي تعاقب من تنسب إليه الأفعال بالسجن مددا تتراوح بين خمس سنوات والأشغال الشاقة المؤبدة، وقد تصل إلي الإعدام، ذلك فضلا عن تدابير احترازية أخري، من قبيل تحديد الإقامة في مكان معين، أو حظر التردد علي أماكن بذاتها.
وهي الإجراءات الاستثنائية التي وردت في قانون الطوارئ ضمن سلطات الحاكم العسكري، ولكنها أضيفت إلي قانون العقوبات، بحيث أصبحت إجراءات عادية تطبق بحق أي مواطن عادي، يشاء حظه العاثر أن يتورط في شيء من المحظورات سابقة الذكر.
ما يصدمنا حقا أن يكون نص المادة ١٧٩ في تعديلات الدستور، الذي يمهد لإصدار قانون جديد للإرهاب، يضاف إلي التعديلات التي أدخلت علي قانون العقوبات لمكافحة الإرهاب، ذلك كله يمثل «الفاتورة» التي يتعين دفعها لإلغاء قانون الطوارئ. وهو ما يدعو واحداً مثلي إلي مراجعة موقفه، وتغيير كلامه، بحيث يتوسل لمن بيده الأمر أن يبقي علي قانون الطوارئ كما هو، باعتباره أهون الشرور المعروضة علينا.
(٤)
السؤال الذي طرحته في البداية يحتمل أكثر من إجابة، ذلك أن مفارقة التمسك بشعار المواطنة، ثم غض الطرف عن مسلسل إهدار حقوق المواطن يمكن أن تفسر بحسبانها من قرائن عدم الجدية.
بمعني أن الذين تمسكوا بالشعار وألحوا علي ضرورة النص عليه كان لهم هدف آخر غير، الذي تصوره بعض حسني النية، ممن رددوا الهتاف وساروا في المظاهرة. وإذا سألتني ما هو ذلك الهدف الآخر، فردي أنه أي شيء غير الحفاظ علي حقوق المواطن.
ثمة إجابة أخري علي السؤال تؤيد ما ذهب اليه الدكتور زكي نجيب محمود ذات مرة في بعض ما كتب، مشيراً إلي أن من تقاليد البيروقراطية المصرية أن ملء الاستمارة أو إحالة الأمر إلي لجنة أهم من إنجاز العمل وتحقيق المصلحة.
وإذا طبقنا الفكرة علي المشهد الذي نحن بصدده فقد نجد أن الذين تمسكوا بالنص علي المواطنة في المادة الأولي اعتبروا أنهم ملأوا الاستمارة وأدوا ما عليهم. من ثم فإنهم لم ينشغلوا أو يكترثوا بما إذا كانت حقوق المواطن وضمانات حرياته قد توفرت أم لا.
أخيرا.. أكرر أن الذين شاركوا في مناقشات تعديل مواد الدستور، تكلموا كحزب وطني في مواجهة الإخوان، أو كإسلاميين ضد علمانيين، أو مسلمين ومسيحيين، فانطلقوا مما يميزهم ويفرق بينهم، ولم يقفوا علي الأرضية المشتركة التي تجمعهم، وهي أنهم مصريون في نهاية المطاف.
وهو ما أدي إلي هيمنة الحسابات الفئوية والحزبية علي المشهد، بحيث شغل كل طرف بما حصّله لجماعته، وكانت النتيجة أن خرج المواطن المصري العادي - غير المشغول بهذه التصنيفات - خاسرا، إذ لم يجد أحدا يرعي حقوقه ويحرسها
No comments:
Post a Comment