Sunday, February 25, 2007

لماذا غفرت الأمة لصدّام؟


في خضم الجدل الذي لا يزال دائرا حول شخص صدام حسين وطريقه اعدامه والذي أشرت اليه في تدوينة سابقة ، وصلتني هذه المقالة عبر بريدي الاليكتروني من الصديق الباحث والكاتب المصري حسام تمام تحت عنوان "لماذا غفرت الأمة لصدام"فوجئت فيها بنموذج تفسيري جديد لم انتبه اليه من قبل وقد يكون النموذج الأقرب الى الحقيقة في تفسير ظاهرة حزن الأمة على صدام حسين ، لذا ادعو الجميع مؤيدين ومعارضي لصدام الى قراءة المقالة والتمعن فيها:

لماذا غفرت الأمة لصدّام؟

24/2/2007

يستحق مشهد الحداد الذي غطى العالم العربي والإسلامي تقريبا حزنا وأسى لإعدام الرئيس العراقي صدّام حسين وقفة تأمل وتدبر، فقد ارتكب الرجل من الأخطاء والحماقات بل والجرائم ما لم يكن لينسى أو ليمر بهذه البساطة والسرعة، وترك في واقع الأمة ومستقبلها من الجروح ما يحتاج إلى وقت طويل ليبرأ ويشفى.. لقد كان صدّام واحدا من أقسى حكام هذا العصر وأكثرهم شدة وعنفا على شعبه؛ قتل وعّذب وشرّد ودمّر وآذى وكانت ضحاياه بالآلاف إن لم تكن بالملايين. ومهما اختلف الناس حول مسؤولية صدّام عما نسب إليه فإنه يبقى اختلافا حول حجم ما فعله أو أسبابه ومبرراته ولا يرقى مطلقا إلى الخلاف حول أصل الفعل نفسه!
***
قد يسوق البعض تفسيرات كثيرة لمشهد الحزن الواسع، بعضها يتصل بروح الانتقام الطائفية اللاإنسانية التي رافقت عملية إعدام الرجل، وبعضها يبالغ في تأثير طريقة نقل الإعلام وقائع الإعدام على مشاعر الجماهير، وتفسيرات أخرى ترجعها إلى أنها بمثابة تنفيس عن مشاعر الكراهية لخصومه الأميركيين، وأقلها اعتبارا واحتراما تلك التي تتهم جماهير الأمة بالسذاجة والسطحية وغياب الوعي. غير أن تفسيرا آخر يستحق أن يطرح باعتباره مدخلا لفهم سمة أساسية من سمات هذه الأمة وهو أنها غفرت لصدّام ذنوبه وما أكثرها وتجاوزت عن إساءاته وما أشدها لقاء ما ختم به حياته أسيرا قاوم في ميدان المعركة فلم يفر منها أو يهرب ثم شهيدا رفض أن يساوم أو يقايض على حريته فيفرط ولو رمزيا في حوزة الأمة أو يتنازل عن حقها في مقاومة الغازي الأجنبي.
***
هذه ليست خطبة من بقايا تراث الخطاب القومي أو مفردة من خطاب جماعات الإسلام الثوري بل هي تفسير أقرب إلى واقع يقرره التاريخ الذي يقول أن لدى الأمة دائما القدرة على الصفح والمغفرة لكل من أخطأ في حقها وأساء ما لم يبدّل أو يغير عقيدتها: عقيدة الحفاظ على حوزتها ومقاومة من يعتدي عليها. وهي دائما لديها من الطاقة النفسية ما يجعلها ترفع فوق الرؤوس أبناءها المقاومين والمجاهدين دفاعا عن حوزتها وردا للعدوان عليها.
***
من يراجع تاريخ الأمة الإسلامية في مراحله المختلفة لن يتعب كثيرا في الوصول إلى رموزها وسادتها المبجلين، هم دائما قادة الفتوحات والمقاومة ممن حموا ثغور الأمة ومنعوا عنها عدوها أو ماتوا دونها وأبوا أن يسلموها أو يستسلموا ولو رمزيا. وأنه حتى حين تضطرب الذاكرة التاريخية وتفقد الأمة في بعض مراحلها التاريخية الاتزان والوعي سنجد أن الوعي الجمعي للأمة يستبقي على هؤلاء ويحفظهم من أن تعدو عليهم آفة التجاهل أو النسيان.
لذلك مازال وعي الأمة يستبقي أسماء الفاتحين والمنتصرين والمقاومين وسيرهم من لدن خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأسامة بن زيد وعقبة بن نافع وطارق بن زياد وقتيبة بن مسلم وسيف الدين قطز والظاهر بيبرس ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح.. وغيرهم على الرغم من أن عظماء آخرين في ميادين أخرى كادت تغيب ذكراهم ليس تجاهلا وإنما لأنهم لن يبلغوا مقام الجهاد من أجل الأمة مهما أنفقوا، وقد رد الرسول على من طلب منه أن يدله على عمل يبلغ به فضل المجاهدين فقال أنه لا يوازيهم بعمل ولو أن يقوم الليل لا يفتر ويصوم النهار لا يفطر.
وفي كل بلد عربي أو مسلم كان زعماؤها ورموزها التاريخيين هم قادة المقاومة أو أصحاب الانتصارات على عدو الأمة الذي هدد وحدتها أو اعتدى على حوزتها.. سنجدهم في كل الوطن العربي والإسلامي من مثل محمد كُريم وعمر مكرم وأحمد عرابي في مصر، ويوسف العظمة في سورية، وعز الدين القسّام في فلسطين، والأمير عبد القادر في الجزائر، وعمر المختار في ليبيا، عبد الكريم الخطابي في المغرب، الإمام المهدي في السودان، والإمام محمد شامل في القوقاز.. وغيرهم. فهم في كل بلد مسلم رموز المقاومة بالضرورة الذين أبوا أن يسلموا للأجنبي أو يفرطوا له في حوزة الأمة؛ تحفظهم الأمة من الضياع في زوايا النسيان وتنقلهم من قلب المعركة مباشرة إلى قلبها وتكللهم بأكاليل النصر لأنهم بما فعلوه قد انتصروا حتى ولو انكسروا عسكريا أو سقطوا في المعركة؛ وهذا ما لا يفهمه الغرباء عن وعي الأمة وضميرها..
فالأمة تحاسب قادتها ورموزها بصدق مقاومتهم ودفاعهم عنها وليس بما يحققونه من نتائج.. وهي تؤمن دائما بأن إرادة المقاومة والصدق فيها انتصار في حد ذاته يكمله الانتصار العسكري ولكن لا يخلقه. لذلك حين هبّ المجاهد السوري يوسف العظمة لملاقاة جيوش الغزو الفرنسي في معركة ميسلون رافضا التحذيرات التي أسداها إليه حتى المقربون منه، رغم أنه كان يعرف أنه لا مقارنة بين قوته وقوة الغزاة ولكنه كان على وعي بأن المقاومة وعدم الاستسلام أو تسليم حوزة الأمة لعدوها انتصار في ذاته، فقال مقولته الخالدة: سوف لن أمنحهم- الغزاة- سوى انتصارا عسكريا!
***
ثم إن الأمة على استعداد أن تنسى كل عيوب هؤلاء المقاومين والفاتحين وتتجاوز عن أخطائهم إذا صح منهم أنهم أخلصوا في مقاومة العدوان وحماية حوزتها. لقد تناست الأمة أخطاء خالد بن الوليد وسرعته في سفك الدماء بل إنها من شدة تعلقها به كفاتح منتصر ومجاهد لم يبخل بنفسه في سبيل أمته قل فيها من يروي حديث الرسول صلي الله عليه وسلم " إن في سيف خالد رهقا"، أو واقعة تبرأه - صلى الله عليه وسلم- من قتل خالد للأسرى.. فضلا عن أن تصديق الرواية التي تحدثت عن واقعة قتله لمالك بن نويرة وزواجه بأرملته قبل انقضاء عدّتها!
لقد رسم الوعي الجمعي للأمة صورة تجمع لسيف الله المسلول خالد بن الوليد كل المآثر والمناقب وسيرة جهاده في الغزوات والفتوح واستبعدت منها بوعي أو من غير وعي كل ما يخدش هذه الصورة المثالية.
تكرر ذلك وسيتكرر دائما طوال تاريخ الأمة، فهي لم تعد تذكر للظاهر بيبرس قتله لسيف الدين قطز حرصا على الملك وصارت لا تعرفه إلا بالظاهر المظفر بعد أن أكمل ملحمة المقاومة وقضى على ما تبقى من ممالك الصليبيين وجيوش المغول، وهي التي تغاضت عن كل ما قيل من قتل الأمير محمد الفاتح لأشقائه، كعادة سلاطين آل عثمان في التخلص ممن قد ينافسهم على الحكم، وأبقت على مأثرة فتحه مدينة القسطنطينية التي استعصت على المسلمين محققا نبوءة الرسول الأكرم.. وكان لصلاح الدين الأيوبي أن يفعل ما يشاء في دولته فيقسمها على أبنائه وأهل بيته دون أن تذكره الأمة بسوء وهو الذي كسر جيوش الصليبيين في حطين وحرّر بيت المقدس.. وهكذا سنة الأمة في تقدير أبطالها وقادة انتصاراتها ومقاومتها.
أذكر أن شيئا من هذا رأيته مع السيد مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق.. فقد كنت أتعجب من أن الرجل يحظى بشعبية هائلة في كل أنحاء العالم الإسلامي تقريبا رغم أنه نموذجا للحاكم المستبد، وأن له ممارسات ضد المعارضة أوغل فيها في الاستبداد والقهر حتى أنه لم يتورع عن القضاء على خصمه أنور إبراهيم وتصفيته سياسيا باتهامات شائنة..
وزاد استغرابي أن الحركات الإسلامية في العالم سكتت على ما فعله مهاتير بأنور رغم أن الأخير كان واحدا من أبرز رموزها وقادتها المشهورين.. وحين زرت ماليزيا واقتربت أكثر من تجربة الرجل واطلعت على تفاصيل صدامه الشهير مع صندوق النقد والبنك الدولي ومؤسسات الاقتصاد الدولية التي كان أنور يتبنى سياستها وعرفت كيف عارضها مهاتير إصرارا على الحفاظ على استقلال بلده من الهيمنة الأميركية؛ تفهمت وقتها السبب في المنزلة التي أنزلها له شعبه ومن ثم أمته: لقد نظروا إليه كبطل من أبطال الاستقلال وقائد من قادة التحرر الوطني الذي يحق أن تقول لهم شعوبهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرنا لكم!
وأتصور أن المقام الرفيع الذي تبوأه الزعيم المصري جمال عبد الناصر لدى الشعب المصري والشعوب العربية أنه الذي رفع راية المقاومة ضد الأجنبي المحتل أو المستكبر ولم يقبل التنازل بإرادته عن الحوزة الوطنية والقومية، وظل رمزا مقاوما وبطلا للأمة رغم انهيار مشروعه والأخطاء الكارثية التي ارتكبها.. ظل ناصر بطلا في وعي الأمة التي سرعان ما تناست ما عاناه الناس من الاستبداد وغياب الحريات وما قاساه خصومه الإخوان المسلمون على يديه من ويلات السجون المعتقلات.
وأحسب أنه لولا الانكسار المخزي أمام الجيش الصهيوني عام 1967 ما تجرأ أحد على نقد عبد الناصر وتجربته، ولغفر له الجميع كل ما تقدم من أخطائه وذنوبه وما تأخر لولا الهزيمة.. لم يعد لناصر بعد الهزيمة المذلة ما يعصمه ولم يتجرأ أحد عليه إلا بعدها فالمثل المصري يقول: كن أسدا وكلني!. ولأنه يتحمل مسؤولية الهزيمة أمام العدو فلم يعد مقبولا أن يستمر في استبداده وقهره لهم.
بل أذهب إلى أكثر من هذا؛ فأقول شيئا قريبا من ذلك في شأن الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك وتفسير المكانة التي يحظى بها –فعليا- لدى الشعب التركي المسلم على رغم الاختلاف جذريا معه في مشروعه لبناء الدولة التركية الحديثة على الطراز الغربي العلماني. إن السبب الرئيسي في أن لأتاتورك منزلة ومقاما لدى الأتراك هو أن وعيهم الجمعي ما زال يستبقي كونه بطل معركة التحرير والذي حافظ على وحدة تركيا أثناء الحرب العالمية الأولى وما تلاها.. لقد بقي هذا الرجل رغم دعايات خصومه الإسلاميين رمزا لأنه لم يفرط في استقلال بلاده رغم كل النقد الذي يمكن بل وينبغي أن يوجه إليه.
***
الوعي الجمعي للأمة وهو يحفظ لهؤلاء الفاتحين المنتصرين أو المقاومين الباذلين للمهج والأرواح ليغفر لهم كل الأخطاء التي ارتكبوها ولا يحتفظ بها ولو كمجرد "زلات" لا يخلو منها بشر؛ فهم في ضمير الأمة قاربوا الملائكة التي لا تقترب الأخطاء فضلا عن أن تقارف الخطايا. بل أن هذه الوقائع تظل- حتى ولو ثبتت تاريخيا- افتراءات من الخصوم وأكاذيب يرميهم بها أعداء الأمة.
ربما يفسر هذا كيف أن جماهير الأمة مازالت تتجاوز عن كل ما ينسب بحق التيارات الجهادية وقادته. طالما كانت بندقيتهم مصوبة باتجاه الأجنبي... فوثبة هؤلاء لملاقاة الغزاة ونفرتهم في مواجهة الأعداء واستعدادهم للموت دفاعا عن الأمة ضد من احتلوا أرضها وتعمدوا إهانتها ينسى جماهير الأمة كل ما قيل وسيقال عنهم. بل إن العقل الجمعي يرفض حتى مجرد تصديق الخطأ بحق هؤلاء ويراها دعايات صهيوأميركية لتشويه صورة "المجاهدين".
وسنلاحظ كذلك أن من يتأكد لهم صحة ما يقع فيه هؤلاء المجاهدون من أخطاء يفضل ألا يواجهها علانية أو يشدد في مواجهتها، ليس خوفا من الصدع بالحق بقدر ما هو حياء من أن يكون في موقفه خذلانا للمجاهدين في مواجهة عدو الأمة واعتقادا بأن من صح ولاؤه لها فلا تثريب عليه.
***
إن الأمة الإسلامية ظلت طوال تاريخها على استعداد ليس فقط للتجاوز عن أخطاء من رفعوا راية المقاومة بصدق وراحوا فداءا لها بل وهي تقبل بأن تتنازل عن حقّها وتطوي أحزانها وتتسامح- أفرادا وجماعات- في أخص حقوقها وتغفر ولو طالها من أذى هؤلاء..
يحكى المؤرخون عن الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة وفتنة خلق القرآن التي تصدى فيها لمحاولةّ بعض خلفاء الدولة العباسية (المأمون والمعتصم والواثق) فرض مذهب الاعتزال على الأمة وإجبار العلماء على القول بخلق القرآن.. لقد ابتلى أحمد في هذه الفتنة وأوذي أذى كثيرا.. عٌذب حتى خلع كتفه وتعرض للإذلال بأن حُمل على حمار من دون سرج مكبلا بالقيود..، فصبر ودافع عن معتقده ومعتقد الأمة في القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق ورفض النزول على رأي الخلفاء ولم يجبهم إلى غايتهم ثم لما ضاقوا به استدعاه المعتصم ذات ليلة، وقال مهدّدا: والله إن لم يجبني إلى مقولتي- القول بخلق القرآن- لأقتلنه في غده..
كان المعتصم وقتها الخليفة الفاتح، وكان لم يزل عائدا من فتح عمورية الشهير بعد أن استجاب لامرأة مسلمة تحرش بها الروم فاستغاثت به أن وامعتصماه فجيش لها الجيوش أدبت الروم وخربت عمورية مدينة ملكهم..
تقول كتب السير أن الإمام أحمد لما بلغه وعيد المعتصم الفاتح دعا قائلا: اللهم اعصمه من دمي، فلم يؤذن الفجر إلا والمنادي ينعى للناس وفاة الخليفة!
لقد عزّ على أحمد أن يرتكب المعتصم كبيرة قتله وأكبره من أن يختم حياته بقتله ظلما وعدوانا وهو الفاتح الذي ثأر لشرف مسلمة وردّ لها وللأمة اعتبارها وكرامتها.. لم يدع عليه بالموت وإنما دعا الله أن ينزهه سفك دمه بغير الحق. إن ابن حنبل على جلال موقفه إنما يمثّل الأمة في أنها تضع قادة الفتح والانتصار لها فوق الرأس حتى أنها تضن بهم على أن يرتكبوا في حقها الحماقة!
***
إن للأمة ميزانها الخاص الذي تزن به أبناءها، وهو ميزان لا يفهمه المتغربون عنها؛ ميزان يجعلها تغفر للابن ما لم يفرط في وطنه وتقول له لو جئتني بقراب الأرض خطايا ولكن لم تفرط في حوزتي أو تسلمني لعدوي أتيتك بقرابها مغفرة. إنه الميزان الذي جعلها تنزل بالمتحالفين مع الاحتلال وقادتهم في العراق أسفل سافلين ثم هو الذي جعلها احتضنت من رفعوا راية المقاومة في لبنان ضد العدو الصهيوني وأنزلتهم منازل العز والفخار دون الالتفات إلى الطائفية المقيثة.
إنه الميزان الذي جعل الأمة التي أساء إليها صدام حينا من الدهر وتسبب لها بالأذى والعنت على استعداد لأن تغفر له وتصفح لأنه رفض التسليم لعدوها ثم لم يفر في ميدان المواجهة ثم قبل بالموت على أن يقر بشرعية هذا العدوان ويقبل باحتلال الغازي الأجنبي.. لذلك فهي تتناسى كل ما أساء فيه لقاء موقف صدق في نصرتها.. وطوبى لمن صحت له

خطوة في سبيل أمته

حسام تمام.
باحث مصري
htammam@hotmail.com

1 comment:

Unknown said...

رحمك الله يا أخي وتقبلك في الصالحين ورفع قدرك في عليين