Sunday, June 18, 2006

مصر والصين


في طريقي الى عملي هذا الصباح رأيت عشرات الاعلام الصينية مرصوصة الى جوار اعلام أخرى مصرية ، توقعت ان يكون هناك شخصية صينية ما تزور القاهرة وتأكد هذا الاحساس حين رأيت كوبري ستة اكتوبر وقد تم ايقاف الحركة فيه بالحجة المعتادة وهي ان"فيه حد معدي" علمت فيما بعد ان هذا الحد كان الرئيس الصيني الذي يقوم بزيارة الى القاهرة ، أثارت المقارنة بين الرئيسين المصري والصيني ضحكة للوهلة الأولى لكنها سرعان ما تحولت الى شعور بالمرارة على ما وصلت اليه الصين وما وصلنا نحن اليه خلال نفس الفترة الزمنية تقريبا والتي ليست بالطويلة في عرف التاريخ الانساني ، كنت انوي الكتابة مطولا عن هذه المقارنة بين مصر والصين ولكن وجدت مقالا للكاتب الكبير محمود عوض يصف ما شعرت به تماما ، فاليكم المقال:

مصر والصين: سلامات!... محمود عوض ... الحياةالأحد 18 يونيو 2006 الموضوع:
مقالات مختارة
من المفترض - مع نشر هذه السطور - أن يكون رئيس وزراء الصين موجوداً في مصر زائراً رسمياً على رأس وفد كبير بمناسبة مرور خمسين سنة على تبادل العلاقات الديبلوماسية بين القاهرة وبكين. خمسون سنة تغير فيها العالم كثيراً، ومن ضمنه مصر والصين. العالم تغير. لكن المصالح تستمر. وحينما بادرت مصر الى الأعتراف بالصين رسمياً في حزيران (يونيو) 1956 بدا القرار في حينه سباحة عنيفة ضد التيار العاصف. فالولايات المتحدة بعد استيلاء الشيوعيين على السلطة في الصين سنة 1949 رفضت الأعتراف بالصين الجديدة مقررة أن الصين بالنسبة اليها هي فورموزا (تايوان في ما بعد) وأن تلك الجزيرة الصغيرة هي التي تمثل كل شعب الصين بل وتحتل مقعد الصين الدائم في مجلس الأمن الدولي كواحدة من الدول الخمس الكبار دائمة العضوية.بالطبع كان المشهد عبثياً الى أقصى حد. لكن من الذي قال ان السياسة الأميركية لا تتسم بين وقت وآخر بأقصى درجات العبث؟ في القاموس الأميركي - وتلك كانت سنوات الحرب الباردة - لا وجود للصين بالمرة إلا باسم فورموزا، وعلى أصدقاء وحلفاء أميركا التزام هذا التصنيف لأن أي اعتراف بالصين الجديدة - الصين الحقيقية - هو عمل عدائي ضد المصالح الأميركية.هكذا بدا اعتراف مصر بالصين الحقيقية في سنة 1956 تجاوزاً للخطوط الأميركية الحمراء. تجاوزاً في الصميم. لكن وكما ثبت في ما بعد فإن الاعتراف المصري بالصين وسط حالة الحصار والعزلة الدولية المفروضة على الصين أميركيا لم تكن له دوافع ايديولوجية بالمرة. كان الدافع هو المصلحة الوطنية. كان قرار تأميم شركة قناة السويس يختمر سراً في العقل السياسى المصري ومن بين حساباته التداعيات المتوقعة للقرار دولياً، وفي مقدمها احتمال لجوء فرنسا وبريطانيا وحلفائهما الى فرض حصار اقتصادي ضد مصر سيكون من أول أسلحته الامتناع عن شراء محصول القطن الذي كان في حينها المصدر الرئيسى للحصول على العملات الصعبة.بالتالي كان الاستعداد بالبدائل تفكيراً حصيفاً من السياسة المصرية لأن انتزاع حق مصر في ملكية قناة السويس لن يكون بالمرة على هوى أسماك القرش في البحار الدولية، خصوصاً ان تجربة ايران في تأميم بترولها قبل سنوات قليلة كانت عبرة لمن يعتبر. ايران قامت بتأميم شركة بترولها البريطانية فانفتحت عليها أبواب الجحيم. وبرغم أن القرار الأيراني كان من حكومة شرعية وبرلمان منتخب ديموقراطياً، بل أيضا بإقرار من محكمة العدل الدولية بأن الخطوة قانونية تماماً، الا أن بريطانيا قادت حصاراً دولياً ضد ايران وفي نهاية المطاف نجحت تحت قيادة وكالة المخابرات المركزية الأميركية في قلب حكومة محمد مصدق واعادة شاه ايران الى العرش فعاد نهب البترول الأيراني الى سيرته الأولى.الخطوة المصرية بتأميم قناة السويس اتخذت مساراً مختلفاً ولكن أكثر ضراوة، فقد أدت الى غزو عسكري ثلاثي ضد مصر من بريطانيا وفرنسا واسرائيل. وبالمقاومة المصرية والحشد الدولي فشل الغزو الثلاثي وتأكدت عودة قناة السويس الى الملكبة والسيادة المصرية خصوصاً أن الجميع أقروا بنجاح الادارة المصرية الجديدة لقناة السويس.بالعودة الى الصين نجد أن القرار المصري المبكر بالاعتراف بها رسمياً كان مكسباًَ معنوياَ ضخماَ للصين لأنه شق حصار العزلة المفروض عليها أميركياَ في الساحة الدولية وهي خطوة تمثل في قاموس أصحاب الحضارات - والصين من أصحاب الحضارات - ظهور صديق بعيد وقت الشدة. هذا العرفان جاءت أبسط ترجمة له في ما بعد. فحينما شهدت الصين اضطرابات داخلية عاصفة، سميت فترة الثورة الثقافية، سحبت الصين سفراءها من عشرات الدول ما عدا سفيرها في القاهرة الذي استمر السفير الوحيد للصين في كل منطقة الشرق الأوسط.لم تكن الخطوة مجرد اعتراف بالجميل ففي السياسات الدولية لا بد للمشاعر أن تعبر عن مصالح. والمصلحة الصينية المستجدة في الاحتفاظ بسفيرها في القاهرة خلال سنوات الستينات كان أساسها أن القاهرة أصبحت هي الباب السحري الى افريقيا، كل افريقيا. مصر ساندت معظم حركات التحرير الباحثة عن الاستقلال ومعرفتها وثيقة بالحكام الجدد في عهد الأستقلال وكل منهم لم يكتسب جديته بين شعبه الا فقط بعد حصوله على دعم القاهرة.من الطبيعي هنا أن تكون للاستقلال مشاكله المستجدة أيضاً. فمع انسحاب المستعمرين القدامى بدا تصميمهم على أن يكون الخراب الاقتصادي بعدهم فارضين على حكومات ما بعد الاستقلال النهوض ببلادهم من تحت الصفر. في حالة الصومال مثلاً كان محصولها التصديري الرئيسي هو الموز وتحتكره الشركات الايطالية تسويقاً وتصديراً. فجأة قررت تلك الشركات الامتناع عن شراء الموز الصومالي. وخلال جولة عاجلة قام بها عبد الرشيد الشرمأركي رئيس وزراء الصومال وقتها تضامنت كل الشركات الأوروبية الأخرى مع الشركات الايطالية في مقاطعة الموز الصومالي. فقط بعد اتجاه رئيس الوزراء الصومالي الى القاهرة وحصوله على قرار مصري معلن بشراء محصول الموز الصومالي بالكامل. عاد الرجل الى بلاده ليجد تراجعاً كاملاً عن المقاطعة الايطالية لمجرد أن أوروبا لا تريد لدول افريقيا التعامل مباشرة مع بعضها بعضاً.في السياسة الأفريقية لمصر وقتها، ورغم غزارة المعلومات وضخامة التطورات، لا نجد في المكتبة السياسية مراجع كثيرة موثوق بها. فقط هو كتاب موجز بقلم محمد فائق المسؤول المصري وقتها المكلف بالملف الأفريقي. هكذا نكتشف أن الدعم السياسي المصري لحركات التحرر الأفريقية سرعان ما تحول الى علاقات اقتصادية تالية ومفيدة للطرفين. مفيدة لمصر وأيضاً مفيدة لدول افريقيا المستقلة. لم يكن الصراع هنا أقل هولاً، لأنه بحسابات استعمارية سابقة كانت الخطوط مقطوعة تماماً بين دول افريقيا. ولا تكون العلاقات مباشرة ومنتظمة إلا مع الدولة المستعمرة هناك في أوروبا. فالافريقي في دولة اذا أراد السفر جواً الى دولة افريقية أخرى يكون عليه أن يذهب أولاً الى باريس أو لندن أو روما مثلاً. من هنا فرضت الضرورة على مصر أن تقيم شركة خاصة للاستيراد والتصدير بهدف المتاجرة مع افريقيا. وفي مرحلة تالية وجدت الشركة أن عليها أيضاً أن يكون لها فروع في أوروبا وآسيا لأن العلاقات الأقتصادية الجديدة متسعة وملحة ومتشابكة.مع التوسع الصناعي الجديد في مصر عرفت المصانع المصرية الجديدة طريقها الى أسواق افريقيا. من نيجيريا الى مالي ومن تانزانيا الى الصومال ومن ساحل العاج الى غانا، بدا الإقبال الأفريقي غير مسبوق على صادرات مصر من المنسوجات والأدوية والجرارات الزراعية والدراجات الهوائية والمعلبات الغذائية والسكر والثلاجات ومواقد البوتاغاز والأدوات المنزلية و... و... كلها انتاج مصري كفيّ وبأسعار تنافسية. في أحيان أخرى كانت التجارة تتخذ طريقاً ثلاثياً فتصدر مصر الثلاجات مثلاً الى افريقيا لتحصل مقابله على أطنان من البن فتصدرها الى طرف ثالث... وهكذا. في كل الحالات أصبح للشركة المصرية المختصة بالتجارة مع افريقيا فروعاً رابحة مع 35 دولة افريقية تقوم بالتسويق في الأتجاهين: تسويق المنتجات المصرية في افريقيا وأيضاً تسويق منتجات افريقيا في مصر والعالم.كان هذا يعني في أقل القليل عشرات الآلاف من فرص العمل المتسعة أمام الشبان المصريين المتعلمين المرتبطين بمصانعهم وشركاتهم والمزيد منهم مع كل توسع في الانتاج والتصدير. وكان يعني أيضاً ظهور جيل جديد من الخبراء المصريين... ليس فقط في التاريخ الأفريقي ولا حتى الاقتصاد الأفريقي... ولكن أيضاً في أذواق المستهلكين واحتياجاتهم بكل بلد افريقي، الى درجة أن مصانع مصرية اشترت خصيصاً معدات جديدة لكي تصنع أقمشة ملونة ومرسومة بالذوق الأفريقي، وأحياناً مصنوعة من قطن قصير التيلة تستورده مصر خصيصاً بدل القطن المصري طويل التيلة والأعلى كلفة، حتى يكون السعر المصري تنافسياً أمام المنتجات الأوروبية في الأسواق الأفريقية.مرة أخرى هذا يعيدنا الى الصين. ففي تلك السنوات كانت المعرفة بأفريقيا تبدأ من القاهرة. وهي معرفة لم تكن تسعى اليها الصين فقط، وانما الاتحاد السوفياتي أيضاً، مع ما يفرق بينهما من خصام ايديولوجي وما يجمع بينهما من حاجة الى الخبراء المصريين بالأسواق الأفريقية. خبراء أصبحوا بحد ذاتهم كما العملة الصعبة وجزءاً أساسياً من رأس المال البشري الجديد المتراكم لدى مصر الناهضة صناعياً واقتصادياً.والآن لنقفز فوق هذا كله الى ما أصبحنا عليه. الصين الآن لها علاقاتها التجارية المباشرة والمتزايدة مع معظم الدول الأفريقية، من أنغولا ونيجيريا وزيمبابوي الى السودان وكينيا والكونغو وأثيوبيا. وباختصار ارتفع حجم التجارة الصينية مع افريقيا من 10.6 بليون دولار سنة 2000 الى 40 بليون دولار في العام الماضي. وأخيراً نقرأ في جريدة أميركية تقريراً صحافياً يقول: «ان الشركات الصينية اشتهرت بالذهاب الى حيث لا يذهب الآخرون سواء لأسباب سياسية أو لأن هامش الربح ضئيل جداً. وفي هذا الاطار فإن الشركات الصينية المملوكة للدولة لديها القدرة على الأعراض عن أرباح قصيرة الأمد في سبيل تحقيق المصالح الأستراتيجية طويلة الأمد للحكومة الصينية». لو عدنا الى أربعين سنة سابقة، ووضعنا اسم مصر بدل الصين، سنجد ما سبق يكاد يعبر به محمد فائق حرفياً عن توجه مصر الأفريقي سابقاً كما تابعه عملياً في كتابه المدهش.لكن الفارق المهم الآن مزدوج. فأولاً: تقطعت حبال مصر الأفريقية سياسياً واقتصادياً منذ سنوات التضليل بالانفتاح شمالاً لا جنوباً. شركات القطاع العام المصرية بدأ خصخصتها بسعر التراب بعدما منعت مسبقاً من الأستثمار أو الصيانة أو التطوير. والشركة المصرية التي كانت مهمتها التجارة مع افريقيا وتسويق المنتجات المصرية جرى تفكيكها والأستغناء عن خبرائها. بل ان شركة المعلبات الغذائية الشهيرة بصادراتها الى افريقيا (والعالم العربي) جرى تصفيتها فورثتها اسرائيل في أسواقها الأفريقية. أما الخبراء الذين فرطت بهم مصر فربما تستطيع تعويضهم باستيراد خبراء مثلهم من الصين. خبراء بأسواق افريقيا. هذا لو وافقت الصين.ثانياً: ان الصين ذات نفسها بعدما كانت تشترى المنتجات المصرية قبل أربعين سنة أصبحت منتجاتها موجودة في أنحاء مصر على مدار الساعة، من فوانيس رمضان الى سجاجيد الصلاة الى الأدوات المنزلية الى المنسوجات، بل حتى أجهزة التلفزيون بعدما جرت أخيراً تصفية شركة القطاع العام المصرية المنتجة لأجهزة التلفزيون منذ 45 سنة والقذف بعمالها وفنييها الى سوق البطالة. أما المفارقة الكبرى فهي شراء الحكومة المصرية منذ سنوات لسندات خزانة أميركية بألف وخمسمئة مليون دولار كسباً للرضاء الأميركي، في الوقت الذي احتاجت شركة منسوجات مصرية في كفر الدوار الى قرض بعشرة ملايين دولار فلم تجد من يقرضها الا بنك في... الصين.وبمناسبة المنسوجات، كان العالم كله يعرف منذ قيام منظمة التجارة العالمية في 1995 أن أميركا ملتزمة بإلغاء نظام الحصص في وارداتها من المنسوجات بعد عشر سنوات. الصين (وكل دول العالم) استغلت السنوات العشر في تطوير منسوجاتها وخفض تكاليفها فأصبحت حالياً مصدر المنسوجات الأول الى السوق الأميركية. لكن مصر فعلت شيئاً آخر لم يخطر في بال أي دولة أخرى. نامت الحكومات المصرية المتعاقبة في العسل مقررة منع مصانع النسيج المصرية من تطوير نفسها أو اضافة أية استثمارات جديدة. فقط قبل أسبوعين اثنين من انتهاء نظام الحصص الأميركية فاجأت الحكومة المصرية شعبها في ديسمبر 2004 باتفاق مع اسرائيل باسم «الكويز» يلزم مصر بشراء 11.7 في المئة من مكونات منسوجاتها من اسرائيل كشرط لدخول السوق الأميركية معفاة من الرسوم الجمركية. والحجة الرسمية هي ان هذا هو الحل الوحيد والسحري لانقاذ الصناعة المصرية.الصين ومصر تحتفلان حالياً بمرور خمسين سنة على العلاقات الديبلوماسية. لا الصين الآن هي الصين ولا مصر هي مصر. لكن الدرس الأساسي يظل هو نفسه: القوة في السياسة والأقتصاد لا تستعار من الآخرين. القوة هي بالأساس قوة ذاتية تبدأ من الداخل ومن هناك الى الآخرين. قد تحتاج مصر هنا الى تأمل حالة الصين . لكن الأفضل هو أن تتعلم مصر من تاريخها. والى أن يحدث ذلك فلا تعليق على الحالة الراهنة بين مصر والصين سوى: سلامات.

No comments: