لعلها أكثر روايات نجيب محفوظ إثارة للجدل، ولعلها الرواية الوحيدة التي تسببت لصاحبها في محاولة اغتيال، إنها رواية "أولاد حارتنا" التي أثارت منذ صدورها وحتى اليوم عاصفة من الجدل الأدبي والديني والسياسي الذي لم يهدأ حتى بعد انزواء صاحبها وابتعاده عن الأضواء.ففي عام 1959ظهرت "أولاد حارتنا" كحلقات مسلسلة في جريدة الأهرام، وما أن بدأت الأهرام في نشر الحلقات حتى قوبلت بهجوم حاد من مشايخ الجامع الأزهر وصلت إلى حد اتهام صاحبها بالزندقة والإلحاد.وطالبوا بوقف نشر الرواية وهو ما كان، فتوقفت الرواية عن الصدور ومنعت في مصر لكنها سرعان ما ظهرت في بيروت لتعيد الجدل حولها من جديد بسبب ما تضمنته من رؤية فلسفية جريئة لقصة الخلق وسيرة الأنبياء منذ خلق أدم وحتى محمد صلى الله عليه وسلم.
الحارة أو العالم؟تنتمي الرواية إلى الواقعية الرمزية ولعلها من أكثر روايات محفوظ استخداما وتكثيفا للرمز، فالحارة في هذه الرواية ليست الحارة المعتادة في أدب محفوظ، إنها ببساطة العالم أو الدنيا الذي يعج بصراعات البشر، وتبدأ الرواية من عزبة الجبلاوي التي يملؤها أولاده، ويبدأ التحول الدرامي حين يولد للجبلاوي ابن من امرأة سمراء هو أدهم والذي يفضله الجبلاوي على بقية أبناؤه، مما يدفع ابنه إدريس للغيرة والتمرد والذي ينجح في نهاية الأمر في التسبب بطرد أدهم من العزبة لتبدأ رحلة أدهم ونسله في الحارة حين يقتل أحد أبناء أدهم شقيقه ويتيه بقية الأبناء إلى أن تنقسم الحارة إلى ثلاثة أحياء، ممثلين بذلك الأديان السماوية الثلاثة.وتتوالى الأجيال في الحارة التي تواصل مهمة أدهم في محاولة إيجاد العدل الاجتماعي المفتقد في ظل سيطرة الفتوات وحكمهم الغاشم ،فيظهر جبل (موسى عليه السلام) ثم رفاعة (عيسى عليه السلام) ثم قاسم (محمد عليه الصلاة والسلام)، ثم بعد أن ينهي كل رسالته يظهر عرفة أو رمز العلم والذي يرى بعض النقاد أن محفوظ اشتق اسمه من المعرفة، يظهر مجهول النسب في الحارة فالعلم لا دين ولا وطن له ثم يقتحم عزبة الجبلاوي ويتسبب في القضاء عليها، لتبدو رسالة محفوظ واضحة في النهاية، حيث يرى أن الأديان السماوية لم تتمكن من تحقيق العدالة الاجتماعية المرجوة وأن العلم (دين البشرية الجديد) هو المؤهل للعب هذا الدور.
قراءات مختلفةجاء اتهام مشايخ الأزهر والغالبية العظمى من التيار الديني لمحفوظ بالردة نتيجة طبيعية لقراءة معينة للرواية رأت فيها ازدراء للأديان والذات الإلهية، فقد تم فك شفرة الرموز التي استعملها محفوظ في الرواية بشكل يكرس هذه الرؤية.فالجبلاوي هو الخالق (عز وجل) و تمرد إدريس على أبيه هو تمرد إبليس على الله وخروجه من رحمته وقتل قدري لأخيه هو قتل قابيل لهابيل، وحديث جبل للجبلاوي هو حديث الله لموسى ومقتل رفاعة المختلف حوله هو صلب المسيح، وخروج قاسم من الحي هي هجرة الرسول محمد من مكة إلى المدينة.أما عرفة وهو الإضافة الحقيقية لمحفوظ في هذه الرواية فجاء خير تعبير عن مرحلة مر بها محفوظ في ذلك الوقت وهي مرحلة التأرجح بين الشك واليقين الإيماني، فقد عاش الكثيرون في تلك الفترة ومنهم محفوظ تساؤلا حرجا بعد نجاح الاتحاد السوفيتي في برنامجه الفضائي وهو : لماذا تقدم السوفييت رغم "إلحادهم " بينما لا يزال العالم العربي والإسلامي غارقا في التخلف والجمود؟ وسادت لدى كثيرين رؤية مفادها أن العلم لا الدين هو خلاص البشرية وهو ما جسده محفوظ في شخصية عرفة.
عواصف التكفيرحين منعت رواية "أولاد حارتنا" من التداول في مصر بدا وأن العاصفة التي أثيرت حولها قد هدأت ولو إلى حين خاصة مع عدم رغبة محفوظ في الصدام مع الأزهر، إلا أن حصول صاحب الرواية على جائزة نوبل للآداب عام 1988 وظهور رواية "آيات شيطانية" لسلمان رشدي أعاد الجدل إلى ما كان عليه خاصة بعد أن عقد البعض مقارنة بين الروايتين، ومع تصريحات محفوظ التي انحاز فيها إلى حرية الرأي ورفض فيها فتوى الإمام الخميني القاضية بإهدار دم سلمان رشدي، الأمر الذي واجهه التيار الديني في مصر بتكفير محفوظ وأصدر أحد شيوخ الجماعة الإسلامية (عمر عبد الرحمن) فتوى اعتبرته مرتدا عن الإسلام، ولعل هذه الفتوى إضافة إلى موقف محفوظ المؤيد للسلام مع إسرائيل كانتا المحرك لقيام شاب مصري بمحاولة اغتيال محفوظ عام 1994 رغم أن الشاب اعترف فيما بعد بأنه لم يقرأ الرواية أبدا!يبقى القول أن رواية "أولاد حارتنا" رغم كل ما أثير حولها، إلا أن سلاح المنع لم يجدي معها، فقد بقيت تباع سرا في بعض مكتبات القاهرة بضعف سعرها الأصلي، وترجمت إلى لغات عدة منها الإنجليزية والألمانية وقوبلت باحتفاء نقدي كبير.وبين هذا الاحتفاء هناك والازدراء هنا، ورحيل صاحب الرواية..ألستم معي أنه حان الوقت لإعادة النظر في الرواية والموقف منها ومن صاحبها !ا
الحارة أو العالم؟تنتمي الرواية إلى الواقعية الرمزية ولعلها من أكثر روايات محفوظ استخداما وتكثيفا للرمز، فالحارة في هذه الرواية ليست الحارة المعتادة في أدب محفوظ، إنها ببساطة العالم أو الدنيا الذي يعج بصراعات البشر، وتبدأ الرواية من عزبة الجبلاوي التي يملؤها أولاده، ويبدأ التحول الدرامي حين يولد للجبلاوي ابن من امرأة سمراء هو أدهم والذي يفضله الجبلاوي على بقية أبناؤه، مما يدفع ابنه إدريس للغيرة والتمرد والذي ينجح في نهاية الأمر في التسبب بطرد أدهم من العزبة لتبدأ رحلة أدهم ونسله في الحارة حين يقتل أحد أبناء أدهم شقيقه ويتيه بقية الأبناء إلى أن تنقسم الحارة إلى ثلاثة أحياء، ممثلين بذلك الأديان السماوية الثلاثة.وتتوالى الأجيال في الحارة التي تواصل مهمة أدهم في محاولة إيجاد العدل الاجتماعي المفتقد في ظل سيطرة الفتوات وحكمهم الغاشم ،فيظهر جبل (موسى عليه السلام) ثم رفاعة (عيسى عليه السلام) ثم قاسم (محمد عليه الصلاة والسلام)، ثم بعد أن ينهي كل رسالته يظهر عرفة أو رمز العلم والذي يرى بعض النقاد أن محفوظ اشتق اسمه من المعرفة، يظهر مجهول النسب في الحارة فالعلم لا دين ولا وطن له ثم يقتحم عزبة الجبلاوي ويتسبب في القضاء عليها، لتبدو رسالة محفوظ واضحة في النهاية، حيث يرى أن الأديان السماوية لم تتمكن من تحقيق العدالة الاجتماعية المرجوة وأن العلم (دين البشرية الجديد) هو المؤهل للعب هذا الدور.
قراءات مختلفةجاء اتهام مشايخ الأزهر والغالبية العظمى من التيار الديني لمحفوظ بالردة نتيجة طبيعية لقراءة معينة للرواية رأت فيها ازدراء للأديان والذات الإلهية، فقد تم فك شفرة الرموز التي استعملها محفوظ في الرواية بشكل يكرس هذه الرؤية.فالجبلاوي هو الخالق (عز وجل) و تمرد إدريس على أبيه هو تمرد إبليس على الله وخروجه من رحمته وقتل قدري لأخيه هو قتل قابيل لهابيل، وحديث جبل للجبلاوي هو حديث الله لموسى ومقتل رفاعة المختلف حوله هو صلب المسيح، وخروج قاسم من الحي هي هجرة الرسول محمد من مكة إلى المدينة.أما عرفة وهو الإضافة الحقيقية لمحفوظ في هذه الرواية فجاء خير تعبير عن مرحلة مر بها محفوظ في ذلك الوقت وهي مرحلة التأرجح بين الشك واليقين الإيماني، فقد عاش الكثيرون في تلك الفترة ومنهم محفوظ تساؤلا حرجا بعد نجاح الاتحاد السوفيتي في برنامجه الفضائي وهو : لماذا تقدم السوفييت رغم "إلحادهم " بينما لا يزال العالم العربي والإسلامي غارقا في التخلف والجمود؟ وسادت لدى كثيرين رؤية مفادها أن العلم لا الدين هو خلاص البشرية وهو ما جسده محفوظ في شخصية عرفة.
عواصف التكفيرحين منعت رواية "أولاد حارتنا" من التداول في مصر بدا وأن العاصفة التي أثيرت حولها قد هدأت ولو إلى حين خاصة مع عدم رغبة محفوظ في الصدام مع الأزهر، إلا أن حصول صاحب الرواية على جائزة نوبل للآداب عام 1988 وظهور رواية "آيات شيطانية" لسلمان رشدي أعاد الجدل إلى ما كان عليه خاصة بعد أن عقد البعض مقارنة بين الروايتين، ومع تصريحات محفوظ التي انحاز فيها إلى حرية الرأي ورفض فيها فتوى الإمام الخميني القاضية بإهدار دم سلمان رشدي، الأمر الذي واجهه التيار الديني في مصر بتكفير محفوظ وأصدر أحد شيوخ الجماعة الإسلامية (عمر عبد الرحمن) فتوى اعتبرته مرتدا عن الإسلام، ولعل هذه الفتوى إضافة إلى موقف محفوظ المؤيد للسلام مع إسرائيل كانتا المحرك لقيام شاب مصري بمحاولة اغتيال محفوظ عام 1994 رغم أن الشاب اعترف فيما بعد بأنه لم يقرأ الرواية أبدا!يبقى القول أن رواية "أولاد حارتنا" رغم كل ما أثير حولها، إلا أن سلاح المنع لم يجدي معها، فقد بقيت تباع سرا في بعض مكتبات القاهرة بضعف سعرها الأصلي، وترجمت إلى لغات عدة منها الإنجليزية والألمانية وقوبلت باحتفاء نقدي كبير.وبين هذا الاحتفاء هناك والازدراء هنا، ورحيل صاحب الرواية..ألستم معي أنه حان الوقت لإعادة النظر في الرواية والموقف منها ومن صاحبها !ا
1 comment:
تحية طيبة
كل ماسنذكره الآن هو أن محفوظ أعطى وأبدع وأتم هدفه الذي وجد من أجله
كل مانريده هو أن نرى ونسمع عن أدباء آخرين مثله أو أكثر
أشكرك
دمت بخير
Post a Comment