Thursday, October 19, 2006

وداعا ...أستاذ عودة


ثمة فئة نادرة من الكتاب والمفكرين ، يمثلون الذاكرة الحية لأوطانهم ويعتبرون أن مهمتهم مرهونة سجل النضال الوطني لأبناء شعبهم اضافة الى الدفاع عن تجربته النضالية ضد كل مشكك فيه أو منتقص من قدرها ، والى هذه الفئة النادرة كان ينتمي محمد عودة الذي ودعته مصر والعالم العربي صبيحة الثامن عشر من أكتوبر عام 2006 بعد صراع طويل مع المرض وبعد حياة حافلة بالعطاء في مجال الصحافة تجاوزت الستين عاما كان خلالها بحق أحد شيوخ هذه المهنة في مصر.
ولد محمد عودة عام 1920 م في قرية جهينة مركز فاقوس التابع لمحافظة الشرقية وكان والده واحدا من كبار تجار القطن ولكنه تأثر شأنه شأن غيره بالأزمة الاقتصادية التي ضربت مصر في الثلاثينات من القرن العشرين ، وكان الأسرة تطمح الى ان يصبح ابنها محاميا مرموقا ليتمكن من استرداد الأراضي التي فقدتها الأسرة ، وبالفعل انتقل الشاب الى القاهرة وانخرط في العمل بالمحاماة وذكر فيما بعد أنه قرأ مقولة لفرعون مصري جاء فيها أن مصر دولة زراعية ومن يريد أن يحكمها فعليه الاستياء على العاصمة ، فقرر ان يستولي على العاصمة!
وكانت الحادثة التي هزت وعي عودة وجعلته يغير مساره هو لدى عودته الى قريته وزيارته لأحد المرضى بصحبة طبيب صديق له وحين أدرك الطبيب أن المريض مصاب بداء الكوليرا وأن حالته ميئوس منها سأله "نفسه في ايه" فأجاب المريض ببساطة :"نفسي في حلاوة طحينية"! فقد كانت الحلاوة بالنسبة لأمثاله من فلاحي مصر في تلك الفترة أمنية غالية لا يستطيعون الحصول عليها!
وجعلت هذه الحادثة عودة يغير مجال اهتمامه –وعمله- من المحاماة الى السياسة والكتابة بحثا عن وسائل لتغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية المتردية التي شهدها ،وبدأ مسيرته من الهند التي ذهب اليها في أوائل الخمسينيات للعمل في الاذاعة الموجهة للدول العربية خلفا للكاتب كامل زهيري ولعل ما شهده في قريته هو ما جذبه لتجربة الثورة الماوية في الصين ،فقد كانت ثورة قوامها الفلاحون ولذلك أصدر عن هذه التجربة أول كتبه "الصين الشعبية" وكان أول كتاب لكاتب عربي عن الصين وواجه صعوبات رقابية جمة وتعرض للكثير من الحذف ، مما أخر صدوره الى ما بعد قيام ثورة 1952 التي قامت بنشر الكتاب كاملا دون حذف.
وبعد قيام ثورة يوليو عام 1952 م في مصر التحق عودة بالعمل في جريدة الشعب التي كان يرؤسها صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة ، وقد شكلت ثورة يوليو منعطفا مهما في حياة محمد عودة ، فقد أمن بالثورة وفلسفتها الاصلاحية وشخص قائدها جمال عبد الناصر الى حد التماهي وكان يرى فيها امتدادا ووريثا شرعيا لكافة ثورات مصر منذ ثورة القاهرة ضد حملة نابليون بونابرت مرورا بتجربة محمد علي ووصولا الى الثورة العرابية.
واستمر عودة في العمل الصحفي وانتقل الى مجلتي روز اليوسف وصباح الخير ، وفي عام 1977 شغل منصب أول رئيس تحرير لجريدة "الأهالي" التي مثلت لسان المعارضة اليسارية ضد نظام الرئيس السادات، خاصة فيما يتعلق بسياسة الانفتاح الاقتصادي والصلح مع الدولة العبرية.
وخلال مسيرته الصحفية الطويلة ، قدم عودة للقارى عشرات الكتب ، عبر فيها عن توجهه القومي العروبي وكذلك عن ايمانه العميق بالاشتراكية كفلسفة ومنهاج وكان يرى في تجربة عبد الناصر أول تجربة ناجحة في الشرق لتطبيق الاشتراكية العلمية ،ومع اشتداد الحملة على الثورة وعلى التجربة الناصرية منذ منتصف السبعينيات تقريبا ، سخر عودة قلمه للدفاع عن هذه التجربة مستعينا بكم هائل من القراءات والوثائق العربية والأجنبية في الرد على منتقدي الثورة ومن هذه الكتب نذكر على سبيل المثال لا الحصر : "الباشا والثورة" الذي خصصه للرد على مؤسس حزب الوفد الجديد فؤاد سراج الدين و"الوعي المفقود" الذي كان بمثابة تفنيد لأراء الكاتب توفيق الحكيم التي أودعها كتابة "عودة الوعي" والذي مثل هجوم عنيفا في وقته على تجربة يوليو و"الطريق الى صنعاء" وفيه قدم عودة بأسلوب أدبي رفيع قصة الثورة اليمنية ومساندة مصر لها وقام بالرد على كافة الانتقادات التي كانت توجه الى التدخل المصري في اليمن.
ولم يختلف عودة المؤرخ عن عودة الصحفي ، فقد استطاع محمد عودة بقلمه الرشيق أن يؤسس بحق لمدرسة جديدة في الكتابة التاريخية ، فأغلب كتابات عودة التاريخية ليست كتبا أكاديمية جامدة وانما أستطاع صاحبها أن يجعلها أقرب ما تكون الى روايات أدبية قدمها الى القارى بسلاسة ويسر ،وتجلى ذلك في دراسته القيمة عن الحملة الفرنسية على مصر ومقاومة الشعب المصري لها والتي نشرت على صفحات مجلة روز اليوسف وكذلك كتابه عن الثورة العرابية بعنوان "قصة ثورة" ، وفي عام 1997 أصدر عودة كتابه المرجع "ليبراليون وشموليون" والذي تناول فيه قصة وتاريخ الديمقراطية والحزبية في مصر ، راسما بذلك صورة لكفاح طويل من أجل الحرية بدءا من تأسيس الحزب الوطني في أواسط القرن التاسع عشر وهو الحزب السياسي الأول من نوعه في الشرق ، حيث سبق حزب الكومنتانج الصيني و حزب المؤتمر في الهند ، وتأسيس مجلس النواب مرورا بالثورة العرابية والمقاومة الشعبية الباسلة للاحتلال البريطاني وصولا الى النظام السياسي المتعدد الأحزاب والتوجهات والذي عرفته مع بدايات القرن العشرين.
وكانت أخر اضافات عودة الى المكتبة هو كتابه "كرومر في مصر" الذي استكمل فيه ما بدأه في ليبراليون وشموليون ، حيث رصد قصة الصراع بين الاحتلال البريطاني في مصر ممثلا في مندوبه السامي اللورد كرومر وبين الحركة الوطنية المصرية ممثلة في زعيمها الشاب مصطفى كامل ،والذي وصل الى ذروته في مذبحة دنشواي عام 1906 والتي تمكن مصطفى كامل من اشتخدامها للتنديد بالاحتلال في عقر داره ، لتنتهي المواجهة بهزيمة كرومر ومغادرته مصر في العام 1907 م.
وبعد، فقد كان عودة نموذجا للمثقف العضوي الذي يقرن القول بالفعل والفكر والفكر بالممارسة ،فكان أحد المشاركين بقوة في حركة التغيير التي شهدت مصر فعاليتها في العام السابق لوفاته وكان يرى أن السبيل الوحيد لخروج مصر من أزمتها الحالية وان بدا رومانسيا الا أنه يتمثل في تكوين جبهة قومية من خمسة تيارات رئيسية : التيار الليبرالي الوطني بمعناه العصري والتيارالقومي الناصري أو تيار الاشتراكية العلمية والتيار الماركسي الوطني الملائم لمصر والتيار الديني غير المتشدد أو ذو المرجعية الاسلامية المستنيرة.وأخيرا ، فقد بقي محمد عودة على مدى أكثر من ستين عاما قضاها في ميدان الصحافة مصريا ، مثقفا وطنيا مخلصا لقلمه ووطنه ، ذلك الوطن الذي ذاب في كيان الكاتب وذاب الكاتب في كل ذرة من ذراته

1 comment:

عبد الحق said...

اشاركك الاحساس بخسارتنا الكبيرة بفقد الكاتب والصحفى والمفكر الوطنى العظيم محمد عودة. لقد عرفته عن قرب وأشهد انه كان, بتواضعه وبساطته وعمق تفكيره وترفعه عن الصغائر, نموذجا متفردا ونسيجا عز نظيره بين ابناء جيله

اما دعوة محمد عودة الى اقامة تحالف عريض يضم القوى القومية والاسلامية واليسارية المناهضة للهيمنة الاستعمارية فلست اجد فيه اية مسحة من الرومانسية.هذه دعوة واقعية تماما تتجسد امامنا الآن على أرض الواقع. ألم يتحقق هذا أثناء العدوان الاسرائيلى الأخير على لبنان؟ ألم تقف كل القوى الحية فى لبنان- اسلامبة وقومية ويسارية_ فى خندق واحد وراء المقاومة الاسلامية بل وحمل بعض هذه القوى السلاح الى جانب حزب الله؟

لتكن تحيتنا لاستاذنا الراحل محمد عودة ان نحمل لواء هذه الدعوة من بعده. فالوحدة بين هذه القوى هى السبيل الذى لاسبيل غيره للخروج من النفق المظلم المفروض علينا وبناء النهضة التى اعطى محمد عودة كل حياته من اجلها. أخيرا أشد على يدك وأحيى جهدك الكبير فى هذه المدونة متمنيا لك المزيد من التوفيق