Saturday, October 07, 2006

أزنار وفتح ملفات الاستعمار


في سياق ردود الأفعال المتواصلة على تصريحات بابا الفاتيكان التي وصفت بالمسيئة للإسلام، طالب رئيس الوزراء الأسباني السابق "خوسيه ماريا أزنار"، المسلمين بالاعتذار عن "احتلالهم" أسبانيا لثمانية قرون، ردا على مطالبة المسلمين لبابا الفاتيكان بالاعتذار عن محاضرته المسيئة للعقيدة الإٍسلامية!.حين قرأت هذا الخبر للوهلة الأولى لم أصدق أنه حقيقي وتصورت انه أقرب ما يكون إلى مزحة ثقيلة الظل، خاصة مع تصريح أزنار الأكثر عنصرية الذي اعتبر فيه أن "الغرب والإسلام حاليا في حالة حرب، فإما نحن أو هم"!.تصريحات أزنار تطرح أكثر من تساؤل ولكن أهم التساؤلات هي: هل "احتل" العرب بلاده حقا لمدة ثمانية قرون بحيث يصبح من الواجب عليهم الاعتذار؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، فما هي "الجرائم" التي ارتكبها العرب والمسلمون خلال فترة "احتلالهم" لأسبانيا وتستوجب الاعتذار عنها؟ والسؤال الأهم هو هل جاء الوقت لفتح ملف احتلال الدول لبعضها البعض وهل اسبانيا بشكل خاص وأوروبا بشكل عام على استعداد حقا لفتح هذا الملف الشائك؟
بداية: يجب الوقوف عند ما يعتبره أزنار احتلالا لأسبانيا، فقد دخل العرب إلى الأندلس كما أسموها في عام 711م، حين كانت لا تزال خاضعة لحكم السلالة القوطية، وكان أحد أبرز من ساعد المسلمين في فتح الأندلس الحاكم الاسباني "يليان" حاكم طنجة، الذي عبر المسلمون البحر على متن سفنه.وحين انتصر جيش المسلمين بقيادة طارق بن زياد على قوات القوط بقيادة ملكهم لذريق، فإن الفاتحين الجدد لم يواجهوا بمقاومة تذكر من قبل الشعب وهو يتوغل داخل البلاد، ويعزو كثير من المؤرخين ذلك للعداء المتأصل بين السلالة القوطية الحاكمة متمثلة في لذريق أو "ردريك" وبين عامة الشعب، الذي كان يعاني من وطأة نظام إقطاعي جائر وحياة مثقلة بالضرائب الباهظة، مما جعله يرى في دخول المسلمين للبلاد فرجا وخروجا من مستنقع الفقر والاستبداد الذي مارسه الحكام القوط بحق الأسبان
وعلى مدى القرون التالية للفتح بشكل عام وبعد تأسيس بني أمية لمملكتهم الثانية في الأندلس بشكل خاص، أسس المسلمون واحدا من أعظم نماذج التسامح الديني خلال حكمهم للأندلس، وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد شهدت مدينة أشبيلية ونظرا للتسامح الذي عامل الفاتحون العرب به أهل البلاد، توطد العلاقات بين الطرفين وكثر زواج العرب من الأندلسيات حتى أصبحوا في نهاية القرن الثالث الهجري يشكلون غالبية سكان أشبيلية.كما ظلت قرطبة التي اتخذها المسلمون عاصمة لحكمهم رمزا للتعايش بين أصحاب الديانات السماوية الثلاث الإسلام والمسيحية واليهودية،وعاش يهود الأندلس ما أسموه بـ"العصر الذهبي" في ظل الحكم العربي الإسلامي، وبرز منهم الفلاسفة مثل ابن ميمون، ووصل بعضهم إلى مرتبة الوزارة كوزير الخليفة الناصر، ودأب ملوك المسلمين على الزواج من نصرانيات من الشمال، ويحفل الشعر الأندلسي بقصائد تتحدث عن قصص عشق بين شعراء مسلمين وفتيات مسيحيات، مما يدل على مدى عمق التعايش الذي كان سائدا في ذلك الوقت.وبقي تأثير "الاحتلال العربي" -كما يسميه أزنار- قائما حتى بعد سقوط الحكم الإسلامي، فسقوط طليطلة عام 1085 م والتي كانت مركزا للترجمة جعل منها محطة هامة عبرت منها المعرفة إلى أوروبا، وظلت بعض الكتب العربية خاصة في مجال الطب ككتاب القانون لابن سينا، من المؤلفات المقررة في كثير من مدارس الطب في أوروبا حتى القرن السابع عشر، بل امتد التأثير إلى اللغة نفسها، حيث بقيت اللغة العربية في اسبانيا حتى القرن السادس عشر، وحتى اليوم توجد ما لا يقل عن 3000 كلمة في اللغة الأسبانية ذات أصول عربية
أما بعد حرب الاسترداد التي قادها الملك فرديناند والملكة إيزابيلا، الذي يفخر أزنار أنه من أنصارهما، فقد شهدت أسبانيا واحدة من أبشع صور الاضطهاد الديني ممثلة في محاكم التفتيش التي أنشأها الكاردينال خمنيس مطران طليطلة بأمر من فرديناند، وكان أول عمل لها هو جمع المصاحف وكتب العلم والفقه والحديث وحرقها في ميدان عام.ثم بدأت بعد ذلك عملية تنصير المسلمين التي شهدت تحويل المساجد إلى كنائس، وتم إجبار عدد كبير من الفقهاء والعلماء والعامة على التنصر وتم قتل من رفض منهم، وأصبح التمثيل بجثث القتلى المسلمين أمراً اعتياديا، ولم يسلم اليهود من التعذيب الوحشي وأحكام الإعدام التي تفرضها محاكم التفتيش، ففروا مع من فر من المسلمين إلى المغرب، حيث وجدوا فيها بين المسلمين الأمان الذي لم يجدوه في اسبانيا.
إذا كان المسلمون من وجهة نظر أزنار مطالبين بالاعتذار عن كل ما سبق، فهل اسبانيا أيضا مطالبة بالاعتذار عن قرون من الاحتلال لبلدان أمريكا اللاتينية؟ ذلك الاحتلال الذي بدأ باكتشاف كولومبوس لما اسماه بالعالم الجديد عام 1495 (أي بعد ثلاث سنوات من سقوط غرناطة) وتحول إلى استعباد لأبناء قارة بأكملها؟ هل اسبانيا مستعدة للاعتذار عن نهبها لموارد وثروات تلك البلاد لما يزيد عن خمسمائة سنة، وعن إهانة المعتقدات الدينية للسكان الأصليين وفرض ديانة الكنيسة الكاثوليكية الأسبانية عليهم؟
لقد فتح أزنار بتصريحاته ملفا شائكا، ملفاً سيكون الغرب أخر المستفيدين من فتحه

No comments: